البث المباشر الراديو 9090
حنان أبو الضياء
الكثيرون حتى الآن يجهلون أهمية العمل الفني، وبالأخص الدرامي في الوصول إلى الهدف، الذي ترجوه أي أمة في تحصين ذاتها ضد عدو خارجي أو دعم هيكلها الداخلي، ولنا في القرآن الكريم أسوة حسنة لذلك، فالقصص القرآني استمد من الجذور التاريخية وحكايات الأمم السابقة، ليطرحها من جديد من خلال التنزيل الحكيم، لتصبح بمثابة العظة والعبرة؛ بأسلوب شائق، ومضمون فائق. الهدف منه خير البشرية ومحاربة أعداء الإسلام بأسلوب يتفهمه عوام البشر ويتناقلونه بسهولة فيما بينهم، إلى جانب أنه توكيد على أن المنظومة الكونية منذ بداية الخلق وبها صراع بين الحق والباطل، ولكل جهة رجالها.

والدراما الدينية لها أهميتها؛ إذا قُدمت بجماليات التجلي الإبداعي، واستخدم الإضاءة بدرجاتها وظلالها في مكانها المناسب، وحركة كاميرا واعية، وهذا ماحدث فى مسلسل الإمام الشافعي من المخرج الليث حجو، وأداء متفرد من خالد النبوي، أكمل جماليات الصورة وعناصر الإبهار، الممزوجة برؤية خاصة لفترة تواجد الإمام الشافعي في مصر، والتي كانت لها مكانة خاصة في نفس الإمام، فاختارها لتكون مسك ختام رسالته الدينية.

المسلسل ركز على أهمية دور مصر في الفقه من خلال إمامها الليث بن سعد، أن مصر كانت تملك مذهبها الوسطي الذي رسخ له الليث بن سعد، والذي كانت خلفيته مبنية على تكوينه المصري وثقافته وحضارته، إلى جانب أن المسلسل يُشير إلى مكانة مصر الحضارية وتقدمها في كل العلوم، ويتساوى في ذلك الرجل والمرأة، فالعلم بمقياس النيل كانت تتقنه مصرية مسيحية لعبت دورها أروى جودة، مع الإشارة المستمرة بالمسلسل إلى حالة التفاهم العميق لمعنى الدين بين مسلمي مصر ومسيحييها.

العمل بهذا المستوى الفني المُميز والإنتاج الضخم، وتمكن نخبة من ممثليه من أداء دورهم وأبدعوا فيه، جعل عامة الناس التي لا تهتم بتلك النوعية من الأعمال يتابعوه، ليتعرفوا على وسطية وسماحة الإسلام الوسطي المصري، إلى جانب التأكيد على أن مصر ذات سيادة خاصة، مهما حُكمت من تيارات مختلفة متناحرة، تبقى شخصية مصر وجمالها، وهو ما أكده الشافعي والسيدة نفيسة، اللذان اختارا البقاء في مصر بسبب أهلها وعلمها.

جاء ذلك إلى جانب أن مسلسل الشافعي، رافض لفكرة الإرهاب والعنف المُعترف بها من قِبل سيد قطب وأحد مرشيدهم مصطفى مشهور، الذي قال: "لن نُحقق النصر إلا من خلال الإرهاب والتخويف"، على الجانب الآخر، لم يكن فيلم أهل الكهف على نفس المستوى الفكري، رغم كل الإمكانيات التي أُتيحت له، وبالتالي نحتاج إلى موقف معه لنعرف نقاط ضعفه لنتجنبها فى أعمال مقبلة.

مع ظهور كل أنواع الدراما عالميًا، هناك العديد من الحكايات التي استحوذت على الخيال تمامًا، الحقيقة قد لا تكون خيالية كما تبدو للوهلة الأولى، بدايةً من الحكايات التي تم تناقلها عبر الكتب القديمة إلى المشاهدات المزعومة لقمر صناعي مُظلم يدور حول الأرض.

استحوذت الحكايات على العقول نتيجة للتفسيرات، التى تم الخلط بينها، وكان لتأثيرها الثقافي دورًا في تشكيل وعي الناس على مر التاريخ؛ لتصبح بمثابة مشروع عسكري سري للغاية، أو أداة مراقبة تحرص الحكومات في جميع أنحاء العالم على دعمها، لتظل الحكايات موضوعًا مُثيرًا للاهتمام وتأسر خيال الكثيرين، ومع توسع فهمنا لها، من الضروري التعامل معها بعين ناقدة والاعتماد عليها لفصل الحقيقة عن الخيال فيما يدور حولنا من مؤمرات تستهدف البلد من داخلها بالعديد من الحكايات الكاذبة، ليصبح الفن الوسيلة غير المباشرة ذات القوة الخارقة للدخول معها في معارك غاية في القوة والشراسة؛ فالخرافات والقصص التي تستهدفنا من جميع أنحاء العالم، بدايةً من التشكيك في الرواسخ الدينية وإنتهاءً بإشعال الخلاف بعمل درامي أو أغنية أو مبارة كرة قدم.

وما بين الحقيقة والخيال نسج مسلسل القاهرة كابول، كشهادة درامية على ماحدث في العالم خلال السنين الماضية؛ وظهور التيار الإسلامي السياسي المتطرف المدعوم من الغرب، وفي الواقع أن الصراع في البناء الدرامي للمسلسل يرتكز على وجود قوتين رئيسيتين متضادتين، ينتج عن تقابلهما أو التحامهما دفع الحدث إلى الأمام من موقف إلى آخر؛ في حركة مُستمرة تقود البناء الدرامي نحو ذروة رئيسية للأحداث، وهذا ما نراه مُتمثلًا في الشخصيات الرئيسية وحياتهم الشخصية وتعاملهم مع الواقع الخارجي، ويوجد أيضًا صراع الإنسان ضد نفسه، والقوة الداخلية سواء بتناوله شيئًا يمس حياته، أحاسيسه، أو معتقداته؛ وهي النماذج الثانوية الموجدة بالمسلسل.

ومسلسل الحشاشين تناول جنون السيطرة والغلبة للخوارج علي مر العصور، تلك السمة الأساسية التي تُفسر العديد من التصرفات التي تبدو غريبة ضمن سياق الأحداث. امتلك كريم عبدالعزيز القدرة على توصيل فكرة أن حسن الصباح يملك دهاءً يستر مطامعه ولا يثير المخاوف فيمن حوله، قادر على خلق الخرافات التي كان يُذيعها ويتولى نشرها والدعوة إليها، ويرجع هذا إلى دراسته للسحر، وهذا يُفسر ما يرفضه البعض بالمسلسل، ويدعي أن العمل يُشير إلى سمات روحانية يملكها حسن الصباح، ويُفسر لنا أعمالًا شتى يبدو فيها الصباح خادعًا.

ركز العمل على كون حسن الصباح لا يُطيق العيش بغير سُلطان، طمعه أقوى من دهائه وفطنته، فهذا الإيمان العيني يُفسر طاعة أتباعه، ومنهم مشهد الفتى من أتباعه الذي بلغ من طاعته له، أن يُشير إليه بإلقاء نفسه من أعلى القلعة فلا يتردد.

في العصر الحديث فهم الغرب تلك القوى الناعمة وأصبحت ذات التأثير الكبير في خيال الجماهير التي تُسيطر عليها الغريزة، واتخذت لنفسها شكلًا سيكولوجيًا مُلائمًا حتى تسلك الطريق الملائم لهذه الجماهير، وتلاعبت بالعواطف فلم تترك للشعب فرصة التفكير الهادئ، فتبلدت عقوله حتى كف عن التفكير، سوى التفكير فيما تريده وفعلت ذلك بكل نجاح، مُحدثةً تحويلًا كبيرًا في الأفكار وإشاعة الفوضى بالتعامل مع الأقليات الموتورة والزعماء الطموحين والفاسدين وذوى الاتجاهات الخارجية، ومع وجود السوشيال ميديا أصبح الأمر أخطر.

ولعل مسلسل هجمة مرتدة بمثابة قراءة الواقع حولنا فى ظل التحولات الجيوسياسية التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط خلال العقد الأخير، وبذلك أنت أمام استعراض درامي يُبسط لك المستجدات والتحديات الصعبة التي تعيشها مصر؛ والتي تتطلب يقظة استخباراتية عالية؛ فنحن الآن في صراع استخباراتي من نوع خطير؛ قائم على الاستهدافات الأمنية ضد مصر ومنطقة الشرق الأوسط أجمع، للسيطرة على الموارد والثروات الطبيعية، إلى جانب النفوذ الإقليمي.

وربما تحالف الشام الجديد، وهو المشروع الجامع بين مصر والعراق والأردن، يُفسر التواجد الاستخباراتي المصري بالعراق في الحلقات الأولى من المسلسل؛ وأن هذا التحالف حلقة في سلسلة طويلة من التعاون؛ وتفعيل النفوذ الإقليمي على كافة المستويات؛ فنحن في زمن جواسيس الجيل الرابع من الحروب؛ والعملية الاستخبارتية التي يدور حولها المسلسل تقترب عن كثب من هذا النوع الجديد من دراما المخابرات في ظل التحولات الجيوسياسية؛ فالتحالفات الاقتصادية هى ما تبدو فقط فوق السطح.

ومسلسل هجمة مرتدة، خطوة درامية جادة للإشارة إلى العمليات الاستخباراتية المصرية لمواجهة المخاطر المستجدة، السياسية والميدانية، للعمل على سلامة منظومة الأمن القومي المصرى والعربي.

ومسلسل العائدون، أظهر الصراع المعلوماتي في عالم المخابرات؛ مُستندًا إلى حقائق واقعية تتداخل فيه الأبعاد الإنسانية التي تُجسّدها الشخصيات التي يقدمها المسلسل؛ مُعتمدًا على وسائل فنية مثل أماكن تصوير مفتوحة فى عدة دول؛ لتوفير عوامل الإثارة والتشويق والترقب؛ ولامانع من وجود بعض المشاهد الرومانسية أو الاجتماعية لتضفى الجوانب الإنسانية على حياة الأبطال.

يأتي مسلسل العائدون ليؤكد أن الإستراتيجية الكبرى لضبط النفس تستبدل القوة بالمعرفة في عالم المخابرات الآن، فإنها تعتمد بشكل كبير على الذكاء، فإنها تساعد في تحديد أولويات كل عملية من خلال تقييم أفضل، كما أن استراتيجية ضبط النفس تستفيد من الجرأة في المجال الرقمي، ربما يكون استخبارات الفضاء الإلكتروني أقل استفزازًا من أشكال التجسس الأخرى، ويقلل من المخاطر التي تصاحب تجنيد الأصول، ويلغي الحاجة إلى الحفاظ على التفاصيل الأمنية لحمايتها.

وفي أمريكا منطقة شديدة السرية في صحراء نيفادا، تحمل اسم المنطقة 51، ومن خلالها تم تصوير كل الأفلام التي غزت بها المخابرات الأمريكية العالم لترسيخ نظرية السوبرمان الأمريكي، وتحضير العالم للكوارث السياسية والطبيعية في العالم.

والجميع يعلم أن المنطقة 51 توفر ساحة معركة مرنة وواقعية ومتعددة الأبعاد للاختبارات والتدريب المُتقدم لدعم المصالح الأمريكية، الغرض الحقيقي من وجودها حتى الآن مازال غامضًا، ومن هنا نفهم دور فيلمي الممر والسرب، لتتدفق الرسالة التي يُريد الفيلمان توصيلها للمشاهد بقوتها الإبداعية الباطنة، بما تنطوي عليه، وكأنها مدفعية فنية تصدم وتزعزع كيان من يدعي كذبًا، خلال الفترة الماضية، أن جيش مصر يهادن.

ففي فيلم الممر، نحن أمام رؤية درامية تنصب في المقام الأول على أن عدونا الأول على مر العصور هي إسرائيل؛ فمهما توقفت الحروب بيننا إلا أن مصر تعي تمامًا من هي إسرائيل وهدفها الاستيطاني المزعوم في قلوبهم وعقولهم؛ والذي ردده إياد نصار، مُمثلًا للظابط الإسرائيلي، بأن تلك الأرض أرض جدهم إبراهيم وابنه إسحاق؛ فتكون المواجهة بكل القوة من الضابط نور "أحمد عز"، بأن إبراهيم أنجب أيضًا ابنه الأكبر إسماعيل أبوالعرب؛ وكأنك بهذا المشهد تقف في وجه هذ الجدل الصهيوني الذي أُلفت فيه آلاف الكُتب بأن إسحاق هو ذبيح الله؛ وإنكارهم لسيدنا إسماعيل، وهي مُفردة تاريخية هامة أشار إليها السيناريو بتلقائية؛ ممايؤكد أنك أمام عمل لا يعتمد فقط على سرد إحدى بطولات الجيش المصري، ولكنه يدلف أيضًا بمرونة ويُسر إلى قضايا عقائدية تعتمد عليه الصهيونية في دعايتها.

وفى فيلم السرب، تتم الإشارة إلى بعض المفاهيم الهامة في الجُندية المصرية، وهي الإنضباط وتنفيذ الأوامر، وهي سمة هامة جدًا، وخاصةً في زمن الحروب، وعقيدة أساسية، وهو ما تم توصيله، وهي عقيدة لن يكتب لها النجاح ما لم يعتنقها الجندي مهما كان استعداده للنضال من أجل الوطن، فالهدف لن يُحقق إلا من خلال خطة مُحكمة وتنفيذ للأمر، وتلك الأهداف أُشير اليها من خلال بناء درامي مُتقن وصل إلى قلب الجمهور وحواسه قبل عقله بشكل أشد تأثيرًا؛ وخاصةً أنه كان رصد للحقيقة والواقع، ولم يعتمد على التضليل وقلب الحقائق.

فى هذا العمل كان اهتمامه الشديد بالتفاصيل في كل مرحلة من مراحله؛ مُستعرضًا ما حدث في ذلك الوقت، من خلال قصص إنسانية بسيطة علي خلفية الأحداث، التي برز فيه تمكن العملين على استخدام التقنيات والمؤثرات السمعية والبصرية بأقصى درجة؛ وفي بعض أجزاء الفيلم قد تتخيل نفسك مُشاركًا في تلك المعركة؛ وبالطبع هذا الإتقان سبقه خضوع الأفراد المشاركين كجنود بالفيلم للكثير من التدريب القاسي؛ مع تجنب الكثير من أكليشيهات الأفلام الحربية.

الفيلمان عملا على إعادة تنشيط الذاكرة الوطنية كما هو جلي في الأحداث؛ وأعادا الاعتبار لشخصية المصري الحقيقىة؛ والتي تُعد بمثابة القوة المنتصرة والقادرة على أن تكون الرمز للشباب.

تابعوا مبتدا على جوجل نيوز