البث المباشر الراديو 9090
أحمد عنتر
أن تحيا غنيا، لا يعني أنك تتميز روحيا أو فكريا عن الخلق، هذه النظرة الاستعلائية الغبية ليست صحيحة على طول الخط، حتى مع قارون نفسه، كبير الأغنياء في قوم موسى، لم يكن قارون – على ماله وعقاراته - فطنا أو نبيها، بل كان غبيا بقدر أن أضر بقضيته وهز عرش وجاهته، بإعلانه السفيه أن ما ملكه إنما أتاه على علم عنده.. وإن تلك المعادلة "إنما أوتيته على علم عندي" - كما ترى معي - إنما هي في قبحها غنية بالفساد عن الإفساد.

ورغم ما قيل في التواضع بأن "ملأى السنابل تنحني بتواضع والفارغات رؤوسهنّ شوامخ"، إلا أنه يمكن تقبل أن يترفّع الغني الممتلئ، بغير غرور، وأن يستعرض الفطين المتوهج بغير استخفاف، لكن ما لا يمكن تقبله أن يجحد ذلك الغني أو الذكي فضل الناس عليه، أو عظيم صنع الله فيه، ويد الإله التي امتدت إليه بالطيب والخير.. وإنه عليك في فلسفة الصعود أن تؤمن بأنه حتى يرتفع لك عنق وحاجب وصوت، أن تحفظ مع امتلاكك المال والسلطة، المبادئ والقيم والأرحام.

عليك أن تؤمن أن المشاعر لن تأتيك من أوراق البنكنوت، بل تأتيك من القلوب الصادقة التي تقر لك بفضل فعلك، وعظيم أثرك، وجميل وجودك، وفي ذلك جاءت المعاني في قصيدة العشماوي الجميلة "ريحانة القلب" التي قال فيها:

قد يعشق المرء من لا مال في يده ويكره القلب من في كفه الذهب
حقيقة لو وعاها الجاهلون لما تنافسوا في معانيها ولا احتربوا
ما قيمة الناس إلا في مبادئهم لا المال يبقى ولا الألقاب والرتبُ

وإني مشفق على الغني الأجوف، أي أن يظن أحدهم أنه غني، بينما هو منغمس حتى أذنيه في الفقر، فقر الاستفادة بما لديه، وفقر الفكر وإرضاء ذوي القربى، حتى أنه فقير في القدرة على إدارة ما لديه، بل كل غناه كامن في جعل ما لديه وسيلة لإفساد حياته، بأن يرسخ في ذاته الجحود، ويربي أبناءه على التواكل ويزرع فيهم سطوة الدنيا، ويعلّم امرأته كيف تهجوه على جهل مسلكه، في غيابه، وتمدح في وجوده، كذبا، رقي طبعه وذكاء تصريفاته، بقدر ما يملك من مال يمنحه إياها.

في سيرة قارون كان ذوو الأرحام ينصحون الطاغية، بأن ينتبه لفلسفة إدارة الثروة، وألا يستجيب لنزعات نفسه، وسوء طويته، وألا يقنع نفسه بأمور الباطل وسلوك التجبر، لكن الرجل كان جاهلا أرعنا، مصمما على أن ثرواته تلك جاءت نتيجة ذكاء ومهارة واجتهاد وتعب ونصب وسهر، بل جاءت عبر قدرة خاصة ذاتية على إدارة المال وتنميته، إنها - كما يقول الدكتور محمود خليل - اللعبة الأزلية الأبدية التي ينظر فيها الإنسان فلا يرى إلا نفسه.

وإني عاينت نموذجا قارونيا، بالفعل، كان يرى في نفسه أنه استثنائي، وأن جميع من حوله حاقدون حاسدون، لا عقل لهم، ولا جدة ولا "تفنيط"، بل هو - أعلم أهل الأرض في اللعبة- وأن غيره مجموعة من المفلسين الحاقدين، إخوان الشياطين، بل أخذ يطلق كلما هداه شيطانه صاروخا كلاميا يوقع به الأخ في أخيه، ويحجب به الخير عن أهله.

وإن ذلك الأثر الذي يتركه هذا القارون، يبقى في النفوس، معذبا لها، فتتأرجح تلك النفوس بين الإشفاق عليه، والضيق منه، حتى يتخلى عن حسابات المصالح ويهزم في نفسه حب الذات والأنانية والغرور.. وإلا خسفت به تلك النفوس الوجود، كما خسف الله بقارون الأرض وأبقى له العذاب والوحدة.. «فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين».

تابعوا مبتدا على جوجل نيوز