البث المباشر الراديو 9090
أحمد عنتر
نكبة كانت تعلوها نكبة، وأنا – كعربي – ساقط بينهما، أحلم بأن تنفذ سرديتي إلى قلوب العالمين، فيقنعوا بأن بلادي اغتصبت وأن المغتصب يقتل أصحاب الأرض، في كل يوم مرتين، مرة بإراقة الدماء وأخرى بتمرير روايته المكذوبة ومظلوميته الفجة، وبين ضحية ومغتصب تتوه الحَكايا، وتتشرذم القصص، لكن تبقى الحقيقة واحدة، لا مساس بها.. فلسطين عربية!

لطالما كان يفرد الطرفان – الفلسطيني والإسرائيلي - صفحات متناقضة على مسرح السجال، إلا أن الضحية كانت تفشل في كل مرة أمام ضمير العالم المنغلق عن حق الضعفاء، المنفتح على سردية المغتصب، منصات ومنابر العالم سواء السياسية منها والدبلوماسية والقانونية أو الأكاديمية والثقافية والإعلامية والفنية والاجتماعية والنقابية، لم تقتنع طوال 76 عاما، إلا بالحديث الإسرائيلي، ولم تحتسب نقاطا إلا للمهاجم الإسرائيلي، لكن ما يجري في غزة، غيّر المزاج العالمي، عكرّه، شوّه السردية اليهودية، ووضعها في موقف حرج.

وبعد 76 عاما من الخنق ومحاولات الإفلات، من الدماء والتهجير والقنص والانتهاك، ظهر في الأفق ما يشبه معسكرين عالميين أصبح كل منهما ينطق بحق المغتصب والضحية على اختلاف الحجية ووضوح الحقيقة، معسكران أحدهما ينطق بالحق، وآخر يتاجر بالكذب، لتنجلي الحقيقة رغما عن الجميع شيئا فشيئا مع تقادم السنين وتطور الأحداث.

ويمكن أن نقول إن النكبة في 48، قامت على واقع عربي وفلسطيني مهترئ، وقعت الواقعة بينما كان الفلسطيني بسيطا وفقيرا وغير متعلم، فترة أجبرت صاحب البلاد على أن يبيع دابته أو ذهب زوجته ليشتري بارودة بدائية ليقاوم بها طائرات ودبابات ومدافع منحها الغرب للعصابات الصهيونية.. وقعت الواقعة بينما العرب بلا إعلام نافذ وبلا حول سياسي أو دبلوماسي أو عسكري قاطع، لكن الآن الوضع يختلف اختلافا جليا.


الإعلام العربي يعود

عربيا كان الإعلام بعيدا عن التوثيق، طوال حقبة مضت، فاستفاد الاحتلال منذ النكبة من غياب البيان العربي الجدي لأفاعيله، فتشبث بقدر ما أوتي من كذب وقوة برواية أنه ليس مسؤولًا عن النكبة من أساسها، إذ لم يرتكب مجازر ومذابح بحق الشعب الفلسطيني على امتداد خارطة فلسطين، ولم يهجّر أصحاب الأرض من مدنهم وقراهم وبلداتهم، بل – للعجب – تجاوز ذلك متهما الفلسطينيين أنفسهم وعروبتهم بأنهم كانوا مسؤولين ذاتيا عما جرى لهم.

لكن الواقع الآن يختلف، فالإعلام العربي أصبح ناضجا، والبلاد العربية وعلى رأسها مصر، أصبحت محكومة بأصحاب فكر ناضج وحنكة فارقة، وتحركات تاريخية، حتى أن قناة القاهرة الإخبارية المصرية، التي بدأت لتوها في حقل الإعلام العربي، أصبحت النور الذي غشي أعين المتطرفين في الحكومة الإسرائيلية، فأصبحوا أكثر تخبطا في تصريحاتهم العدائية الظاهرة، فتكشفت عوراتهم أكثر أمام الدبلوماسية العالمية، وتحولوا إلى شخصيات كرتونية تثير شهية العالم للسخرية.

هذا التخبط والجنون الإسرائيلي لم يظهر في تصريحاتهم فقط، بل في تصرفاتهم أمام العالم، وآخرها مشهد سفير دولة الاحتلال، الذي ارتكب جرما دبلوماسيا قحا يظهر فقد قيادات المحتل لاتزانهم، من على منصة الجمعية العامة للأمم المتحدة مساء العاشر من شهر مايو الجاري، إذ مزق بكل صلف ميثاق الأمم المتحدة أمام أعضائها احتجاجًا على التصويت الساحق لصالح توصية تُرفع لمجلس الأمن تدعم الاعتراف بدولة فلسطين.


بساط النفوذ الإسرائيلي داخل الغرب ينسحب

طوال تلك الأعوام من بعد عام النكبة وهناك على جانبي المحيط الأطلسي دعما غربيا لإسرائيل، بل اعتراف وترويج لرواية الاحتلال وسرديته ومظلوميته، بل محاولات لترسيخ وزرع تلك السردية في العقل والضمير الجمعي الشعبي الغربي، وهو ما ساهم في أن يتحول المزاج الغربي الشعبي بشكل مطلق لفترة ممتدة طوال خمسينيّات القرن الماضي وستينيّاته إلى التعاطف مع إسرائيل وقضيتها الزائفة، إذ أضحت صورة الاحتلال في العقل الشعبي الغربي أنه هو الضحية أمام طوفان عداء عربي وإرهاب فلسطيني مستحكم.

هذا البساط بدأ ينسحب، وجرعة السم التي زرعها الاحتلال في عقول ودماء الشعوب الغربية بدأت تزول، مع بزوغ السردية الفلسطينية في نهاية عقود القرن الماضي وبداية القرن الحالي، إذ ظل الشعب الفلسطيني، حريصا طوال العقود الماضية، على أن تبقى قضيته حية بأحرف مضيئة غير مطموسة، ومع هذا الحرص الفلسطيني بقيت دعوات الشرفاء من العرب لحماية القضة الفلسطينية وعدم تصفيتها، وعلى رأس تلك الدعوات والمواجهات العربية، التصدي المصري الرسمي والشعبي لمحاولات تهجير الفلسطينيين من أرضهم وتصفية قضيتهم، إذ اعتبرها الرئيس عبدالفتاح السيسي خطا أحمر، لا يجوز المساس به أو تجاوزه.

أحداث جسام تكشف عورة الاحتلال

في السابع من أكتوبر بدأت سلسلة دلائل جديدة تفضح همجية الاحتلال وكذب رواياته التي يتنصل فيها من مسؤوليته عن النكبة والتهجير وتقتيل أهل فلسطين في 48، إذ طفت إلى السطح عبر إعلام عربي قادر، وشاشة القاهرة الإخبارية ومنصاتها، وبتوثيق دقيق غير مسبوق، جرائم الإبادة الجماعية والتطهير العرقي والقتل الممنهج، التي مارسها جيش الاحتلال على مرأى من العالم أجمع منذ 7 أكتوبر 2023 حتى اليوم، كل ذلك كشف حقيقة ما جرى حين وقعت نكبة 48، وأن الطبيعة الإجرامية المتأصلة لدولة الاحتلال ليست وليدة هذه الأيام.

ما يفعله المحتل الآن يكشف عن وجهه، ويقدم للعالم دليلا مرئيا دامغا، واعترافا مصورا واضحا على تورط الدولة الصهيونية في مجازر دير ياسين واللد وقالونيا والسرايا العربية وناصر الدين وعين الزيتون والرملة ومعها ما يقرب من 100 مجزرة أخرى على امتداد خارطة فلسطين التاريخية، وإن هذا التاريخ المسجل من الدماء رغم فداحته إلا أنه لا يقارن بمجازر اليوم والتي أسقطت ما يزيد عن 35 ألف شهيد فلسطيني، وآخرين مثلهم يسكنون أنقاض المباني المهدمة، منذ السابع من أكتوبر الماضي.. 3 آلاف مجزرة ارتكبت بحق الشيوخ والنساء والأطفال، أسقطت منهم من أسقطت، ومعهم 100 ألف جريح.

لم يعد العالم في ذكرى النكبة في حاجة إلى أدلة، فالصورة تُنقل إليهم تحمل الدم والألم والمرارة، بينما الاحتلال قابع في غطرسته، متخبط في تيهه، مستمسك بعروة متفلتة مهترئة من الجهل والغرور والعدوان.. "إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا"، وإنا لصادقون!

تابعوا مبتدا على جوجل نيوز