البث المباشر الراديو 9090
أحمد عنتر
المواجهة لها رجال، والرجولة ما هي إلا تعبير عن التاريخ والمواقف، وإن لكل صاحب موقف وكفاح رجولة خالدة، حتى وإن تعثرت قدماه حينا وانسكبت كرامته ردحا من الزمن، إذ قد يطول طريق المواجهة، فتتعثر وتدمى قدماك، بل قد تبذل عرقا ودما، ولا ينجلي سراب المسير عن أفق حل وارتياح، لكنك تثابر حتى تصل، فإذا وصلت كان الانتصار بيّنا والوصول مشهودا، والنجاح زاهرا مضيئا.

للانتصار بعد المواجهة فخر وفرحة وعزة ورجولة، مشاعر يراها الجميع في ملامحك المرهقة المستبشرة، وفيما اهترأ من جسدك وتساقط من لحمك، إذ يرون منك وقتها كيانا شامخا أكسبته الملمات حكمة، ومنحته العثرات قوة، وأكسبته الأزمات كرامة وفلاحا، فللوقوف بعد التعثر مجدا، لا ينبغي إلا لمن قاوم واستبسل، وثابر واخشوشن، وصَدَقَ في هدفه، فعزّ جهده وارتقى مسعاه.

هكذا هي مصر في كل أيامها وبكل رجالاتها.. أيامها الكبرى المشهودة، والتي قال عن أحدها الرئيس الراحل خالد الذكر أنور السادات، "لكننا ظللنا نحتفظ برؤوسنا عالية فى السماء وقت أن كانت جباهنا تنزف الدم والألم والمرارة"، ولعل الوصول إلى لحظة الانتصار تسبقها لحظات من الانكسار، وساعات من العمل، ودهور من الإيمان، وهذا قدر مصر في كل انتصاراتها الكبيرة على الأعداء والأزمان، وإني آمل أن ينطبق هذا المنطق على مواجهتها للأزمات التي تحك جلدها على الحدود.

الوضع لا يخلو من خطر، على حدود مصر مع الأراضي الفلسطينية، إذ يتلوى نتنياهو سما ومكرا، برغبة مغرضة في استهداف رفح الفلسطينية ليحافظ على وجوده في الحكم، حتى ولو أدت مخططاته السخيفة إلى إسقاط إسرائيل نفسها، وكأنما تربى على التنكيل بكل شيء مقابل المصلحة الخاصة فقط، إلا أن الأمر لا يمس الكيان الصهيوني وحده، بل يهدد المنطقة بأكملها بخطر الاشتعال والسقوط تحت كرة لهب، لن تنتهي إلا بحرب كبرى.

ومصر وسط كل ذلك الخطر، تمسك بيد الأشقاء، وفي اليد الأخرى زمام السيطرة على الوضع، كأنما هو قدرها الذي لا يتركها حتى الانتصار سواء دبلوماسيا أو عسكريا على مر التاريخ.. فبعد تولي الرئيس عبد الفتاح السيسي منصبه ظلت القضية الفلسطينية قضية مركزية بالنسبة لمصر، وبذلت جهودًا كثيرة لتثبيت وقف إطلاق النار لتجنب المزيد من العنف وإراقة دماء المدنيين الأبرياء من الشعب الفلسطيني.

مساعي مصر وجهودها المتواصلة تتضمن التأكيد المستمر على ضرورة إقامة دولة فلسطينية مستقلة، علاوة على الجهود الإنسانية التي قدمتها مصر من خلال فتح معبر رفح لاستقبال الجرحى الفلسطينيين وإرسال المساعدات الغذائية والطبية للشعب الفلسطيني، لتظهر "لاءات مصر الثلاثة"، في رفضها للتهجير وانتهاك مقدسات الشعب الفلسطيني والمساس بأمنه وسلامته، أو وضع الاشتراطات لوقف العدوان.

دعم مصر الحاسم، المنزه عن الأغراض، في العقد الأخير، لم يتوقف منذ عدوان مايو 2021، إذ وجه الرئيس وقتها بنقل المرضى والحالات الحرجة للعلاج إلى القاهرة، كما أرسل الهلال الأحمر المصري موادّ إغاثية ومستلزمات طبية إلى القطاع، وجهزت وزارة الصحة المصرية عدة مستشفيات لاستقبال الجرحى والمصابين القادمين من قطاع غزة، عبر منفذ رفح البري، ليمتد الدور نفسه، دون منّ أو أذى، للأزمة الجارية الآن بخطرها وسيناريوهات التشابك المعقدة فيها.

مواقف مصر باقية، لا يمكن المزايدة عليها، أو التقليل منها، في كل حقبة أو حكم، إذ اضطلعت بالموقف الأجّل ووقفت بقوة ضد السياسات الإسرائيلية لتصفية القضية الفلسطينية ومحاولات التهجير القسري، وفي الأزمة الأخيرة، يواصل الرئيس عبد الفتاح السيسي إجراء اتصالاته المكثفة بهدف إيقاف إطلاق النار، واستقبال العديد من المسئولين والسياسيين دوليًا وإقليميًا إلى جانب التشاور مع القوى الإقليمية والدولية ، وآخرها ما جرى من تبادل لوجهات النظر اليوم بين الرئيس السيسي، ورئيس وزراء ماليزيا أنور إبراهيم.

الاتصال الهاتفي الذي تلقاه الرئيس من إبراهيم توافق فيه الجانبان على التشديد على خطورة أية تحركات عسكرية إضافية لما سيكون لها من عواقب كارثية على المأساة الإنسانية في غزة، وذلك ضمن تحركات أخرى من القيادة السياسية لإيجاد وسائل ضغط دولية تجبر إسرائيل على التجاوب مع الرغبة المصرية في فرض هدنة إنسانية ووقف العدوان.

إن مصر تسير بلا توقف، تسعى فتثمر الأرض من تحتها، وتثابر فتتهيأ لها الظروف، وتجاهد من أجل شعبها وأشقائها فينحني لها الزمان، وتتقرب منها البلدان، لكن يبقى أن يؤمن أهلها وجيرانها بالنصر وأسسه، وألا يسفهوا من الدور المصري وطرائقه، وأن يندمجوا مع القاهرة وقيادتها في مساعي الخير، وجهود السلام، وأحلام الاستقرار والإعمار، ليظل البنيان العربي، كما هو دائما، قادرا، يافعا، ناهض العود وصلب الكيان.

تابعوا مبتدا على جوجل نيوز