البث المباشر الراديو 9090
الكاتب الصحفي محمود بسيوني، رئيس تحرير جريدة أخبار اليوم
رسمت الحضارة الغربية لنفسها صورة براقة.. وهي كذلك بالفعل لكثير من الناس حول العالم، الكل يريد الحياة السهلة، أن يكون للإنسان حقوق يسمعها القادة، أن توفر الدول لمواطنيها الرفاهية في الصحة والتعليم والإسكان وغيرها من الحقوق الأساسية التي جاءت في العهدين الدوليين.

نجحوا في تصوير الأمر باعتباره أن الإنسان هو الشغل الشاغل لهم وأصل الاهتمام، وامتدت الأيادي بالأموال الصعبة لمؤسسات حقوق الإنسان من أجل تأصيل تلك المفاهيم في المشرق المتأخر، كانت حقوق الإنسان دائما تسبق الاستثمارات وتصدير التكنولوجيا، والضغوط السياسية تلتف كالحيات على زهرة الحقوق والحريات، بالتوازي كانت وسائل الإعلام تختلق العداءات وتطارد المساوئ في أي نظام سياسي يتحرك على الجهة المقابلة ويضع أولويات مغايرة تعبر عن مجتمعاته الباحثة عن سكن أدمي وفرصه تعليم ورغيف خبز.

تتحدث الخارجيات الغربية وجماعات الضغط ومراكز الأبحاث ومنظمات حقوق الإنسان الدولية دائما عن الديمقراطية ونشرها في المجتمعات الأخرى وتعتبرها أولوية، وهي لا شك أولوية لأي مجتمع متحضر، أو ساع للنهوض، لكن هل يجب أن يتم تصديرها معلبة، بنموذج موحد على كل الدول، هل من المعقول أن تستنسخ تجربة إنسانية تعبر عن مجتمع وقيم تخصه من مجتمع آخر وصل إلى تجربته الخاصة بعد سنوات وسنوات من العمل والنجاح والفشل، وهل من المناسب أن توصم التجارب المغايرة للنموذج المصدر قبل أن تكتمل تجاربها.

بل إننا إذا مددنا الخط على استقامته ونظرنا إلى تجارب التحول الديمقراطي القسرية التي تدخل الغرب بأدواته العسكرية والدبلوماسية من أجل فرضها سنجد أننا أمام دول فاشلة لا أصبحت ديمقراطية ولا عادت مستقرة كما كانت، الأخطر أن الغرب حينما شعر بالفشل هرب دون أن يدفع الفاتورة وتركت شعوب تلك البلدان لتلاقى مصيرها وحيدها فيما احتفظ الغرب بمناطق نفوذ عسكرية ودبلوماسية للحفاظ على مصالحة وانتهى الأمر.

فاتورة باهظة دفعها عالمنا العربي خلال فترة الفوضى التالية على ما أطلق عليه الربيع العربي وربما الرقم الدقيق هو 833 مليار دولار، ولا زال التحصيل جاريا حتى يومنا والقادم من سنوات، أموال خسرناها بسبب تجارب الغرب وتسليم المنطقة برمتها إلى تنظيم إرهابي دموي نكافح أثره المدمر على العقل العربي، بداية من خلط الدين بالسياسة، وموقفة الرافض للآخر الديني، وقهره للمرأة وتشدده تجاه تمكينها ورفعه للسلاح ضد الحكومات ودعمه للمليشيات المسلحة والإرهابية.

غاب الاستقرار والأمن فغابت الاستثمارات وهربت السياحة واختفت فرص العمل وأصبحت الحكومات في وضع لا تحسد عليه تحت ضغط أزمات اقتصادية عالمية متلاحقة اشتدت مع إغلاق كورونا ثم حرب روسيا وأوكرانيا وقرارات مواجهة التضخم الأمريكية التي صدَّرت تضخما شرسا إلى كل دول العالم وهروب للدولار من الأسواق الناشئة باتجاه الولايات المتحدة والغرب، زلزال اقتصادي ترك الدول النامية تكافح من أجل الحياة بدلا من أن تكافح من أجل النمو.

ومع تجدد اشتعال الصراع العربي الإسرائيلي والتحولات الإقليمية الناتجة عن هجمات 7 أكتوبر 2023 ضرب الشرق الأوسط موعدا مع نقطة تحول جديدة في تاريخه، فما يجرى خلال الأشهر الثلاث الماضية يؤكدان أن ما بعد 7 أكتوبر ليس كما قبله، أقلها إن إسرائيل كشفت عن وحشيتها وتمويتها في عصر يسجل كل شيء ويحفظه على صفحات التواصل الاجتماعي، والأهم أن الغرب سقط عنه قناع حقوق الإنسان حينما ساعد في قتل الإنسان في غزة.

ربما لم يعرف التاريخ لحظة انكشاف لخطاب سياسي مخادع مثلما حدث لخطاب الولايات المتحدة حول حقوق الإنسان بعد دعمها غير محدود لجرائم الحرب الإسرائيلية في غزة، بل إن المقارنة واقعة بين تحرك إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن تجاه الرئيس الروسي في حرب أوكرانيا وحشدها للرأي العام الدولي من أجل إصدار مذكرة توقيف ضد الرئيس الروسي بينما تقدم الدعم الفج والمساعدات العسكرية للحكومة الإسرائيلية المتطرفة بقيادة بنيامين نتنياهو وإيتمار بن غفير لقتل الفلسطينيين في غزة ودفعهم إلى الهجرة القسرية باتجاه مصر والأردن وهي جرائم حرب تستوجب تحرك المحكمة الجنائية الدولية ورغم أنها موثقة ومحددة إلا أن المحكمة الجنائية لم تحرك ساكنا، والولايات المتحدة أوقفت أي تحرك لوقف إطلاق النار في غزة بحق الفيتو وأعطت الضوء الأخضر لاستكمال عملية القتل الممنهج لمن تبقى من أهل فلسطين، ورفض الحديث عن حقوق الإنسان وقالت إنها لا ترى سوى حق الإنسان الإسرائيلي بينما الفلسطيني عربي بلا حقوق.

وتكتمل الازدواجية بان تدعى الولايات المتحدة انها تنخرط مع مصر وقطر من اجل فرض الهدنة بينما ترفض في الأمم المتحدة أي قرار يفرض على إسرائيل التوقف، ثم نسمع عن صفقة تسليح أمريكية قادمة للجيش الإسرائيلي حتى يستكمل اجرامه ضد المدنيين العزل الذي ارتكب بحقهم انتهاكات لا حصر لها بل وصنع عداء مع أجيال قادمة بصور تجريد الفلسطينيين من ملابسهم وتصويرهم بشكل مذل ومهين.

ادعت إسرائيل لسنوات انها واحة الديمقراطية وحقوق الانسان في الشرق الأوسط وتحدثت الولايات المتحدة عن حماية لا تنتهي لإسرائيل تصل إلى حد الحصانة المطلقة، حتى شاهد العالم قتلهم للأطفال والنساء والصحفيين وإذلال الرجال ومنع المياه والغذاء، جرائم متعمدة ولم يحرك العالم المتحضر ساكنا.

ما حدث ويحدث في غزة لا يمكن تجاوزه، فهو لا يمثل سقوط لخطاب حقوق الإنسان الغربي فقط، بل سقوط لكثير من الشعارات المرتبطة، بل وكاشف للهدف الأساسي من تمزيق العالم العربي لتنظيمات ومليشيات، وهو بقاءه بلا حول ولا قوة في مقاومة العربدة الإسرائيلية، بلا قدرة على مواجهة أسئلة المستقبل، بلا إمكانية لتوفير الحياة الكريمة لشعوبه، مطعون في تجاربه الديمقراطية المستقلة، دولا بلا اعتبار تكافح من أجل الحياة... فقط الحياة.

تابعوا مبتدا على جوجل نيوز