البث المباشر الراديو 9090
الكاتب الصحفي محمود بسيوني، رئيس تحرير جريدة أخبار اليوم
مرة أخرى يتوقف التاريخ أمام المصريين، فالمشهد أمام اللجان الانتخابية كان حاشدًا ومهيبًا وفاق كل التوقعات، وربما من الصعوبة بمكان أنّ نختصر مشهد أيام الانتخابات الرئاسية 2024 في كلمات أو سطور، فهناك ملايين الحكايات التي تستحق أنّ تُروى، الأم مع أبنائها يحملون علم مصر وترتسم على وجوههم السعادة والفرحة، الجدة تصطحب أحفادها وطلبة الجامعات والعمال والفلاحين، ذوي الهمم، شعب عظيم احتشد أمام اللجان قبل فتحها، ليؤكد أنه اختار مصر، وانحاز لاستكمال تجربته الديمقراطية، وبناء جمهوريته الجديدة.

المشهد يستحق القراءة العميقة، خصوصًا وأنَّ المؤشرات الأولية تؤكد أنَّ مصر على أعتاب نسبة مشاركة غير مسبوقة في تاريخها، وبالتالي في تاريخ المنطقة، وهو أمر يستحق أنّ نتوقف أمامه بالفحص والدرس.

"أتصور"، أنّ البداية الصحيحة يجب أنّ تأتى من سؤال.. لماذا احتشد المصريون رغم دعوات وسائل الإعلام المعادية بالمقاطعة؟، والتحليلات الغربية بأنّ نسبة المشاركة ستكون منخفضة وعملية التشكيك الواسعة في مسار الدولة المصرية وقدرتها على مواجهة التحديات المتصاعدة، وبالتأكيد التحدي الاقتصادي والتضخم المستورد والذى أثر على القدرة الشرائية وكان سببًا مباشرًا في ارتفاع الأسعار والاضطراب في سلاسل التوزيع العالمية، والاتفاق على أنّ الأزمة استحكمت وأنّ مصر في طريقها للانفجار والفوضى.

إجابة السؤال المعقد بسيطة لمن يفهم المصريين وعمق ارتباطهم ببلادهم، وتتلخص في أننا بالفعل شعب عريق صاحب حضارة متجذرة في جيناته التي تتوارثها الأجيال وتصنع لديه وعى فطري بالأخطار المحيطة به وبضرورة التوحد عند الشدائد، والتمييز ما بين ما هو صالح وما هو خبيث.

ذلك الوعي الجمعي هو ما يمكن أنَّ نطلق عليه المصلحة الوطنية وهو اختيار لا يحتاج إلى ترتيب مسبق بين جموع المصريين وهو اتفاق وتوافق لا شعوري لا يختلف فيه سكان الحضر أو الريف أو المناطق الحدودية، انصهار وطني في الأوقات الدقيقة وتلاحم بين المصري وأرض بلاده وهو أمر يميز المصريين عن غيرهم.

الخطر من ضياع الدولة قائم منذ أحداث 2011، وانهيار دول في المنطقة وتقسيمها ومعاناه سكانها ضاعف من قلق المصريين على مستقبلهم ومستقبل بلادهم، ومع انكشاف المخطط الإسرائيلي لتهجير الفلسطنيين من غزة إلى سيناء، وظهور ازدواجية المعايير الغربية في التعامل مع جريمة الإبادة الجماعية للفلسطينيين، وازدياد القناعة بأنّ لا أحد يلتفت إلى قتل العرب، وأنَّ العالم يتعامل بمكيال مع أوكرانيا بينما يتعامل بمكيال آخر مع فلسطين رغم أنَّ كلا الدولتين يتعرض لنفس الخطر.

عزز ذلك التمييز الغربي واختفاء الحديث عن انتهاكات حقوق الإنسان حينما مارست إسرائيل القتل برضا "أمريكي - غربي"، الشعور الجمعي بأنه لا أحد يكترث لمصالح الشعوب سوى الشعوب نفسها، وأنّ ما تحاول بعض الدول الغربية ترويجه عن دعم الديمقراطية وحقوق الإنسان ما هو سوى دعاية لتدخلات خارجية ورغبه في السيطرة عن بعد أو عبر وكلاء يصلون إلى السلطة عبر جسور تتخذ من الديمقراطية ستارًا خادعًا يخفى أهدافًا أخرى. 

ربما نجح ذلك الأسلوب في السابق لكن الشعب المصري اكتسب من تجربة الفوضى حصانة ضد المتاجرة بالشعارات والأكاذيب، وأنّ مصلحة الدولة المصرية وبقائها يسبق أي اعتبار آخر.

السبب الأهم من وجهة نظري، هو تقدير المصريين لمسار بناء الجمهورية الجديدة على أساس مخطط نشر التنمية عبر محاور عرضية مكنت المصريين من تسهيل حركتهم بطول وعرض البلاد وفتح آفاق للعمل والحياة بشكل مختلف، الاهتمام بسكان العشوائيات وبناء مدن مثل الأسمرات وبشائر الخير، والاهتمام بالتنمية في المناطق الحدودية وسيناء التي ودعت التهميش وتحققت فيها معدلات تنمية غير مسبوقة بالإضافة الى تنمية المناطق الريفية في الدلتا والصعيد عبر المبادرة الرئاسية "حياة كريمة"، والاهتمام بالحماية الاجتماعية للفئات الأكثر احتياجًا.

وكانت مشاركة الشباب والمرأة فارقة، فنحن أمام جيل نشأ في كنف "ثورة 30 يونيو" وتربى على الوعى السياسي والاهتمام بتمكين الشباب من جانب القيادة السياسية، فهو جيل شارك لأنه يريد بناء مستقبل مختلف وأفضل ولديه رغبة للمشاركة في ذلك البناء ولديه ثق وأمل فى دول تعمل على تمكينه وتأمين مستقبله، أما عن المرأة، فهي شاركت بقوة لأنها تعيش عصرها الذهبي ولأنها عصب الأسرة وتريد الاستقرار والأمن ولأنها تبحث عن دولة مستقرة لأولادها وأحفادها ولديها إرادة لاستكمال مسار التمكين، والمحافظة على مكتسباتها سواء على مستوى التمكين السياسي أو التمكين الاقتصادي.

السبب الآخر في الاحتشاد هو الثقة في المسار السياسي الإصلاحي، واستعادة الأحزاب لقوتها في الشارع وهي قوه مبنية على العمل المباشر مع الناس والنزول والعمل على الأرض بين الطبقات المختلفة، وهو أمر تأسس بشكل قوى عبر الحوار الوطني واقتناع تيارات المعارضة بجدية توجه الدولة لتهيئة المجال السياسي لاستيعاب كل التيارات وهو ما تبلور في نزول معارض قوى وشرس مثل المرشح فريد زهران لانتخابات الرئاسية وهو ما أكد جدية المعركة بتقديم خطاب سياسي مختلف والتفاف تيارات المعارضة المختلفة حوله.

التنافسية منحت الانتخابات المصرية ملمح مختلف عن كل الانتخابات التي شهدتها المنطقة وعززت التجربة الديمقراطية المصرية بطرح رؤى سياسية مختلفة تحاورت بشكل علني وتوافقت على عدد من الملفات المختلف عليها في الانتخابات الرئاسية وعبر كل منهم عن تأييده للمصلحة الوطنية، ولكن عبر أرضية مختلفة.

واكتملت التجربة بالحياد الإعلامي ومبادرة "الشركة المتحدة" وهى أكبر كيان إعلامي في مصر والشرق الأوسط بمنح المرشحين أوقات متساوية لعرض برامجهم الانتخابية وآرئهم السياسية عبر البرامج المختلفة، بالإضافة إلى تطبيق المعايير الدولية لانتخابات النزيهة والشفافة بفتح المجال أمام متابعة الإعلام الأجنبي للانتخابات الرئاسية بأكثر من 528 مراقبًا ومتابعًا أجنبيًا، وهو الاهتمام الذى يعكس قوة مصر في العالم والإقليم، وبالفعل قام المئات من المراسلين الأجانب والمراقبين والمتابعين بزيارة مقار اللجان ومتابعة أجواء التصويت وإجراءات الانتخابات في كافة محافظات الجمهورية وذلك بحرية تامة دون أية عوائق أو شكاوى من أي مضايقات لأداء دورهم والإطلاع على سير الانتخابات، وهى عملية تنظيمة أدارتها الهيئة العامة للاستعلامات بكفاءة.

تبقى الإشادة بالأداء المهني والاحترافي للمشهد الانتخابي من جانب الهيئة الوطنية للانتخابات والمتابعة المستمرة من جانب الهيئة لكل اللجان خلال عملية الاقتراع من أجل حلّ المشاكل وتسهيل عملية التصويت، وهو ما منح كل المصريين فرصة المشاركة في انتخابات المنصب الرفيع.

ربحت مصر تجربة ديمقراطية مميزة، قال الشعب المصري فيها كلمته عبر المشاركة بقوة في الانتخابات الرئاسية للعالم إنّ مصر على قلب رجل واحد، والمصريون خلف دولتهم ومدركين لحجم الخطر المحيط بمصر ولديهم وعى وطني كبير بأهمية استكمال مسار بناء "الجمهورية الجديدة"، ويؤكد المصريون مجددًا أنّ إجابة سؤال التنمية والإصلاح في الشرق الأوسط "هي مصر".

 

نقلًا عن مجلة «روزاليوسف»

تابعوا مبتدا على جوجل نيوز