البث المباشر الراديو 9090
شنودة فيكتور
كانت الساعة قد تجاوزت الخامسة عصرًا من يوم السبت السابع عشر من مارس عام 2012، عندما تلقيت اتصالًا هاتفيًا من الأنبا أرميا سكرتير قداسة البابا شنودة يسألنى عن مكانى ويطلب منى الحضور سريعًا إلى المقر البابوى.

لم يستغرق الأمر ثوان لاستيعاب الأمر وأدرك من نبرة صوته أن قداسة البابا شنودة قد رحل فى سلام وأن روحه الطاهرة قد فارقت جسده فقد كانت الأشهر الأخيرة فى حياته تنبئ بذلك خاصة بعد رحلته العلاجية الأخيرة فى يناير من نفس العام إلى أن اشتد عليه المرض والألم وظهر الأمر جليًا فى عظة الأربعاء الأخيرة له فقد كان يودع شعبه وأحبائه وتخرج من فمه الكلمات بصعوبة من شدة الآلام والمرض.

كان مطلوبًا منى أن أسجل بصوتى نبأ رحيله فى البيان الرسمى الصادر عن الكنيسة القبطية الأرثوذكسية.

ويشاء القدر أن تعيش مصر فى تلك الأيام فيما بعد أحداث يناير 2011، وسط اضطرابات سياسية وأمنية لم تشهدها بلادنا منذ سنوات طويلة، حقا قد كان وقت الرحيل صعبا وسط تلك الأحداث والتداعيات المتلاحقة.

وربما يتعجب أو يتسأل البعض فمن بين ألقاب عدة أُطلقت على البابا شنودة الثالث البابا والبطريرك رقم 117 فى تاريخ بطاركة الكنيسة المصرية الخالدة أقف أمام هاتين الكلمتين شديدتي الوصف "عبقرى المودة" فلا يختلف أحد على فطنة وذكاء وحكمة قداسته الممزوجة بتلك المحبة والاحتواء للجميع مما دعا المفكر الكبير الراحل الدكتور على السمان أن يطلق عليه هذا اللقب فى أحد لقاءاتي المصورة معه وكذلك خلال أحد الاحتفالات.

هاتين الكلمتين تلخصان رحلة طويلة امتدت طيلة 89 عامًا، من مولده فى الثالث من أغسطس عام 1923 فى قرية سلام بمحافظة أسيوط وحتى يوم الرحيل 17 مارس 2012 بالمقر البابوى بالقاهرة.

كان البابا شنودة شخصية متفردة فى تاريخ كنيستنا المصرية فهو الطفل اليتيم "نظير جيد روفائيل " الذى تفتحت عيناه للحياة فى الربع الأول من القرن العشرين وهو هذا الفتى الذى نشأ فى رحاب حركة شعبية عظيمة هى ثورة 1919 فكان عشق وطنه بداخل الشاب البسيط الذى عانى من قسوة طفولته بفقدان والدته ثم والده بعدها فتربى فى جنبات بيوت أشقائه الكبار من الصعيد لدمنهور للإسكندرية حتى استقر فى القاهرة وكان محبوبًا من الجميع، وكان حب العطاء ينمو بداخله بمواقف عدة رواها هو بنفسه، فكان راضيا بنعمة الله فيه ورغم فقدانه الأم فقد كان يتمتع بحنان شديد وفكر ناضج جعل منه شخص يعرف جيدًا كيف يتغلب على العوائق والمشكلات طيلة حياته.

كان الحس الوطنى وحبه لمصر موازيا لحبه لله والكنيسة فأحب الشعر وكتب قصائد وطنيه كما كتب العديد والعديد من القصائد الدينية وكان له دور أدبى فى كل احتفالات مدرسته.

ومن أشهر قصائده:

تريد الكنانة عزمًا قويًا شبابًا يضحى وشعبًا جديدًا
شبابًا يعيد بناء الحدود يعيش شريفًا يموت شهيدًا
من الآن هى لنبنى اتحادًا وننسى العدا وننسى الحقود
وإذا ما أراد الدفاع جحيمًا لحرق العدو نكون وقودًا

ويروى هو خضم فى أحاديثه فيقول إنه كان يضع بجوار سريره أوراقًا حتى إذا جاءته فكرة يكون متاحا له أن يسجلها.

وكان له نشاطًا فى كنيسته وخدمة متميزة فى صباه وشبابه وأثناء دراسته الجامعية، ومن رهبنته فى الدير وخلوته فيه حتى سنوات اختيار البابا كيرلس السادس له ليكون أول أسقف للتعليم فى تاريخ الكنيسة، وصولًا لجلوسه على الكرسى المرقصى بابا وبطريرك للكنيسة طيلة أربعين عامًا من 1971 حتى 2012.

وإن أردنا أن ننجز الأمر بكلمات قليلة لا ننجزه بل ربما نعبر عنه فنقول عن البابا شنودة، إنه تلك الشخصية التى هضمت تجربة القرن العشرين وطنيًا وكنسيًا وحياتيًا فكان مختلفا بل ومتفردًا كونه من تشكل وعيه فى بوتقة من هوية هذا الوطن وتشهد بذلك كل ما مرت على مصر وعليه من تجارب طيلة أربعين عامًا فحفظ لمصر وللكنيسة وللوطن سلامهم عابرًا فوق كل خلافات واختلافات بمحبة وحكمة وبصيرة قلما يجود بها الزمان.. رحم الله الراحل العظيم ونيح نفسه بسلام ونفع الله وطننا وكنيستنا ببركة صلاته عنا.

تابعوا مبتدا على جوجل نيوز