البث المباشر الراديو 9090
إبراهيم نصر
تابعت تلك "الخناقة" العجيبة على "ديانة" الفنان إبراهيم نصر، بعد رحيله بساعات، إذ عبّر غالبية المتطرفين عن صدمتهم من هذا الاكتشاف المدهش والمؤلم، اكتشاف أنه كان «نصرانياً»، وبالتالى قرروا سحب دعواتهم له بالرحمة، فقد مات كافراً، والكافر لا يجوز له الدعاء، ولا طلب المغفرة، ولا أى شىء. الكافر حطب جهنم وبئس المصير.

كانوا يتنقّلون من صفحة إلى صفحة على السوشيال ميديا - كأن الله فوّضهم للحديث باسمه – ليرهبوا أى مخالف، حتى لو كان هذا المخالف من دينهم، بل إنهم هددوا هؤلاء المخالفين فى حالة استمرار الدعاء لهذا المسيحى، بل هذا النصرانى، بل هذا الذمى، بل هذا الكافر - والعياذ بالله- أن ترتد عليهم تلك الدعوات، صاعقة من السماء، وقد تتبعت بعض صفحاتهم، ورأيت عليها مزيجاً من صور فاتنات هوليود، سكارليت جوهانسون ومونيكا بيلوتشى وإيفا جرين شبه عاريات، لكن مع خليط من صور لحبّات طماطم، وبطاطس، وباذنجان، مقسومة إلى نصفين، وداخلها، معجزة ظهور لفظ الجلالة.

كان هذا صادماً لى، رغم أننى أعرف. صادماً، رغم أننا مررنا به كثيراً، صادماً رغم أنه يعبّر عن "مجتمع آخر" لا نعرف عنه شيئاً، مجتمع الجهلة، فى قاع يسيطر عليه المتطرفون بالكامل، ولا تظنوا أن إغلاق الزوايا، والساحات، أمام المتشددين، يعنى أنهم ماتوا، فقد نقلوا عمليات تغيير الأدمغة بـ"أجهزة تحكم" إلى البيوت وجروبات "السوشيال ميديا" المغلقة، ولم يعودوا فى حاجة إلى منابر، أو مجلات، أو صحف مسمومة، لينشروا أفكارهم، وكلها لا تقيم للمسيحى وزناً، ولا تعتبره شريكاً، وإنما ضيف ثقيل، يمكن قبوله نادراً تحت وطأة الظروف الخانقة، إلى حين التخلص منه بإذن الله.

كان أبى يحب المسيحيين، وكان لى أصدقاء مسيحيون، لكن جارتنا لم تترك فرصة للتعبير عن كراهيتها لهم. وكانت توبّخ أمى لأنها تسمح لى باللعب مع صديقى المسيحى، وتبالغ فى إبداء علامات الصدمة على وجهها، حين تخبرها نكاية فيها أننى أذهب إلى بيته "كمان"، إذ أنهم "رائحتهم زفرة"، و"لا يغارون على إناثهم"، لأنهم "يأكلون لحم الخنزير"، و"بالتالى لا يمكن لنا أن نتناول طعامهم أو شرابهم"، و"لا يمكن لشفاهنا أن تلمس أماكن لمستها شفاههم"، رغم أنهم كانوا يهمسون فجراً لنا، بقصص رائعة، عن "حفلات ماجنة" يقدمونها فى الكنائس، ليلة رأس السنة، إذ يطفئون الأنوار، لتبدأ القبلات الهامسة الطويلة والأحضان المحمومة. كنت أتخيل نفسى فى أحلام اليقظة، من فرط هذه القصص، أغافل الحراس، وأذوب فى الأجساد، حتى تأتى الفرصة وأحصل على نصيبى، لكن أحلام اليقظة كانت تنقلب إلى كوابيس، حين تقفز إلى ذهنى صورة تلك الأسود التى يخبّئونها فى دهاليز سرية داخل الكنائس. كنت أتخيل أنهم يتركوننى أغافل الحراس وأمرّ، بينما يبتسمون بتشف - وهم ينظرون لى من مكان ما - ويهنئون أنفسهم لأنهم لم يتعبوا فى تحضير وجبة الأسود الجائعة اليوم، وإن كانت صغيرة، و"ناشفة حبّتين".

كان أبناء المتطرفين فى القرية، يلتقطون أى شىء من الأرض، عود ثقاب، عقب سيجارة، حصاة، أو نواة مشمش، ويضعونها على رأس أى طفل يجلس غافلاً، دون أن يتنبه إلى اقترابهم منه، ويضع أحدهم ما التقطه على رأسه، ثم يجرى وضحكته تجلجل صائحاً: "اللى عليه إشارة.. خدّام النصارى"، فينهض الطفل الغاضب مثل تنين محاولاً الإمساك به، لرد الإهانة بسرعة، إذ أنها شنيعة ولا تترك فى نفسه سوى شعور العار، فماذا سيقول لأمه وأبيه حين تصلهم الحكاية التى تعنى باختصار أنه "خدام النصارى؟!".
وهذه هى الحقيقة، مع أننى لا أحب لفظ الحقيقة، فالمشهدان متجاوران فى مصر طوال الوقت، ولم نستطع محو الصورة السوداء بالكامل. فهناك "مصر الوسطية"، وفيها لا ينتظر أحد توجيهاً من أحد، لا من شيخ أو مولى، وإنما يعرف كل شخص فيها ما الصح وما العيب، ما الواجب وما الحق. وهو وأهل بيته وجيرانه وأصدقاؤه يشكلون مجتمع الوسطيين المعتدلين، ويمنحون مصر روحها وبساطتها وتلقائيتها وسماحتها وانفتاحها. وهناك كذلك "مصر الرمادية"، التى يعشّش فيها الخراب فى شكل جماعات تؤمن بأن الله "منح النصارى كل حاجة حلوة فى الدنيا، المال والجمال، لأنه لن يمنحهم مكاناً فى الآخرة"، وبالتالى يربّون أطفالهم على كراهية المسيحى، وحسده، وتمنى زوال نعمته، وحين يصير ذلك المتطرف الصغير متطرفاً كبيراً، وباستطاعته حمل السلاح، يكون المسيحى على رأس من يريد إرساله إلى السعير، إذ أنه شبع من الدنيا ونعيمها.

كان مُنظِّر الإرهاب محمد سليم "العوا" على رأس المبشرين بـ"الأسود فى الكنائس" و"الأسلحة المخبّئة تحت إشراف الرهبان" استعداداً لغزو مصر، على أساس أن مصر لا تخصهم، أو أنهم غزاة قدامى ينتظرون اللحظة المواتية لقلب الطاولة، وقد ذهبتُ إليه، ذات يوم، وواجهته - فى حوار طويل - بأقواله، لكنه نفى ذلك. كان يحاول رسم صورة جديدة لنفسه، لكنه لم يتحمل طويلاً وانقلب فى فترة لاحقة إلى "محمد سليم العو"، بينما يحاول تمهيد الأرض لمرور أسوأ قتلة فى تاريخ مصر.
كل شىء كان يسير بين هذين الخطين. أو هاتين الصورتين. الجهل القاتل، والتسامح البسيط، الكراهية المطلقة، والحنو البالغ، الأذى فى صورته الشيطانية القصوى، والتكافل العظيم. وقد قامت القيامة فى أحد الأيام الحارة الخانقة من أيام يونيو 81 فى "الزاوية الحمراء" قريباً من الوايلى، بسبب قصة مكررة عن بناء كنيسة، ورفض الأهالى لذلك، وكلمة من هنا وكلمة من هناك، حتى اشتعلت الأمور، أو أُشعلت، وبدأ العشرات يجرون فى الشوارع يحملون السيوف، والشماريخ، والآلات الحادة، وربما المسدسات، وجرفوا فى طريقهم كل شىء، وكان كل واحد يحاول النجاة بنفسه، وقد اضطر بعض أصحاب المحال المسلمين إلى إعلان أسمائهم فى لافتات علّقوها على الأبواب خوفاً من نهبها وحرقها، وقد سقط شهداء مسيحيون، تحت هذه الموجة التى شارك فيها متطرفون وشخصيات انتهازية، ورغم أن هذه القصة كابوسية إلا أنها كانت لا تخلو من قصص مصر العظيمة، إذ بدأ بعض السكان المسلمين فى إيواء كثير من الأسر المسيحية فى بيوتهم، وخلف الجدران لا يمكنك تمييز المسلم من المسيحى، هذا الوجه هو ذاك، وهذا الكهل قد يكون أباً لهذا الطفل المسيحى أو تلك الفتاة المسلمة، لم تعرف البيوت المصرية هذا التمييز. لكن التمييز يحدث  - هناك - فى الشارع، وكذلك فى المبانى، فى المساجد والكنائس، وكذلك فى عقول المتخلفين.

كانت الصورة أفضل كثيراً فى الستينيات، وقد أسست الدولة "الثقافة الجماهيرية"، لمحاربة الجهل فى الأقاليم البعيدة، واختارت سعد كامل أول رئيس لها، وكان يساعده سعد الدين وهبة، وقد وصلت السينما المتجولة والمسارح إلى كل مكان، وجذبت عدداً كبيراً من الناس، أحبّوا الثقافة. لم يكن هناك هذا الجمود التى عرفته مصر بعد الانفتاح، فواحد ممن تم اختيارهم لمساعدة رئيس الهيئة، بخلاف وهبة، كان المسيحى ألفريد فرج، رائد المسرح العظيم، كما كان الناقد لويس عوض، رئيساً للقسم الثقافى فى "الأهرام"، ولم يكف وزير الثقافة ثروت عكاشة آنذاك عن ترديد فخره بـ"التتلمذ على يديه"، كما برزت الفنانة سناء جميل كواحدة من الأيقونات الفنية الجميلة، وكانت فترة زوجها لويس جريس أفضل فترات "صباح الخير"، فقد حوّل المجلة إلى واجهة حضارية تصهر مزيجاً من التيارات فى نهر جميل، كما كان موسى صبرى علامة فى الصحافة، فرأس تحرير مجلة "الجيل" وجريدة "الأخبار"، ويعدّ كتابه "خمسون عاماً فى قطار الصحافة" علامة مضيئة، كما أنه صاحب شخصية "محفوظ عجب" التى ظهرت فى روايته المجهولة "دموع صاحبة الجلالة"، لكن الأجيال الجديدة تنسبها بالخطأ إلى نجيب محفوظ، والنماذج المضيئة كثيرة، لكننا لا نحاول التنقيب أو التذكر.

ومع الأسف بدأت الصورة تنقلب بعد 73، إذ فُتحت السجون، وخرجت الفئران، وكان هذا أكبر خطأ يمكن ارتكابه، إذ أنّ من يؤمن بقتل الناس، لن يُصدر كتباً فى فنون التسامح، ولن يقف على ناصية الشارع ليسقى "العطشانين"، ولن يسير خلف العجائز بـ"شماسى" حين تسقط الأمطار. وسُمح مع الأسف الشديد لهم بإصدار مجلة "الدعوة" وكانت منبراً للفكر الجهادى، كما تُركت الأسواق مفتوحة لشركات توظيف الأموال لتتضخم، "السعد" و"الشريف" و"الريان"، كما بدأ الإخوان فى إزاحة الثقافة الجماهيرية من القرى والأرياف، وشكلوا مجموعات للكشافة، وكانوا يستلمون الأطفال من أمهاتهم لتدريبهم وإعدادهم على الحياة العسكرية، ليس لمواجهة عدو خارجى طبعاً، وإنما لقتل أشخاص من دينهم لا يعتنقون أفكارهم، وبالطبع لقتل النصارى والذميين، وقد جمع المتطرفون ملايين ممن يرغبون فى تجربة السفر، و"سفّروهم" إلى الخليج، وهناك استلمهم تابعون لهم، وأعادوهم أكثر أخونة، وسلفنة، وسواداً، كما يحكى عالم الاجتماع على فهمى فى كتابه الصغير والمهم "دين الحرافيش فى مصر المحروسة".

وللأسف بدا وكأنه يتم التمهيد لذلك بحبس مجموعة من أبرز الكتّاب والمفكرين، مثل محمود أمين العالم، ومحمود السعدنى، وتم استبدال هؤلاء بالمرشد عمر التلمسانى، فبدأ يثبّت أقدام القتلة فى الأرض، ويكسب كل يوم أرضاً جديدة، ضد من اعتقدوا أنه وأتباعه قد يتقبلون فكرة التجاور مرة أخرى، لكن للأسف اكشفنا بمزيد من الكوارث الطائفية والاغتيالات المتتالية ومحاولات التصفية المعنوية، أن هؤلاء لا يقبلون إلا بأنفسهم، إذ أنهم جماعة الله المختارة وحراسه على الأرض.

يموت المتطرفون ولكن أفكارهم لا تموت، إذ أن هناك أتباعاً، ومنتفعين، وجهلاً، وكراهية، وأفكاراً بالية، وقرابين يتم تقديمها لإله لم يطلبها، يموت المتطرفون ولكنهم يتركون لنا ما هو قادر على تحويل حياتنا إلى صحراء، يموتون ويتركون ما هو قادر على نسف أى محاولة للإصلاح، وللأسف يساعدهم بعناد أحياناً، وبجهل أحياناً، وبإصرار أحياناً، من يطيب لهم تقديم أنفسهم إلى الناس باعتبارهم شيوخاً، من يصورون أنفسهم باعتبارهم "حاملى شعلة الوسطية إلى العالم". يموت المتطرفون ولا يتركون لنا سوى كراهية جعلتنا أشباهاً للخراتيت، وجعلتنا كـ"الحجارة أو أشد قسوة"، صار بإمكاننا أن نحكم على غيرنا، بالكفر، ألا نمنحهم الفرصة، ليقفوا أمام خالقهم وخالقنا، ليحكم بالعدل عليهم وعلينا. لقد نسينا إنسانيتنا، وضمائرنا، ولحسنا كل اعتراف بفضل لأحدهم، وأهلنا التراب على تواريخ كاملة، وعلى شخصيات اجتهدت لتسعدنا. وقد كان الفنان إبراهيم نصر آخر ضحايا التطرف. لكننا لن ننساه، حتى لا ننسى آخر جزء متبق من إنسانيتنا.

تابعوا مبتدا على جوجل نيوز