البث المباشر الراديو 9090
المفكر سمير مرقص
كلمة "المواطنة" من الكلمات التى صار المصريون يسمعونها كثيرا خلال فترة التقلبات السياسية التى شهدت حراكا غير مسبوق فى المجتمع المصرى على مستويات عدة. البعض يعرّفها باعتبارها مجرد التعايش بين "المسلم والمسيحى"، ولكن المفهوم أوسع وأشمل بكل تأكيد.

المفكر الكبير سمير مرقص له من الكتابات والدراسات والمقالات، ما يجعلنا نلجأ إليه عند الحديث عن هذه الكلمة، ومدى تحققها فى مصر، والسبيل نحو ذلك.

التقيناه للبحث عن أصل الكلمة والكتابات الأولى فيها، وتعريفه هو لها، فوجدنا الكثير من الأمور التى تستحق الدراسة والتأمل وإعادة النظر فى مفاهيم عدة، بل والقراءة فى تاريخ مصر الحديثة من وجهة نظر تحقق "المواطنة".

 

فى هذه الحلقة من حوار "مبتدا" مع سمير مرقص نحاول أن نفتح بابا لفهم "المواطنة" كأحد تطبيقات الدولة الحديثة التى تسعى مصر لتحقيقها فى هذه الفترة. 

فى البداية، ربما يكون مفهوم "المواطنة" ملتبسا عند البعض، فما هو مفهوم "المواطنة" كما تراه؟

أنا أنتمى إلى المدرسة التى تتعامل مع مفهوم "المواطنة" ليس كمفهوم تقليدى كلاسيكى دأبنا على تعريف "المواطنة" عليه بمعانى الانتماء والولاء. فـ"المواطنة" بالنسبة إلىّ هى حركة المواطن أو ممارسته لدوره كـ"مواطن" عمليا وحياتيا على أرض الواقع، وذلك من خلال اكتساب ما يشكل مضمون "المواطنة"، أى العدالة والمساواة وعدم التمييز ومنظومة الحقوق المتنوعة التى تنظر لها "المواطنة" كحزمة واحدة.

"المواطنة" هى ممارسة المواطن لدوره كـ "مواطن" .. وحركته لاكتساب العدالة والمساواة على قاعدة اقتصاد إنتاجى

وبالتالى، فإن "المواطنة" هى أعقد كثيرا من ربطها بمعانى الهوية والانتماء والولاء أو حتى "الجنسية" التى لا تعنى سوى مواطنة من الناحية القانونية، ولكن تُستكمل باكتساب المواطن حقوقه ومساحات أدواره بمجهوده وحركته اليومية.

المفكر سمير مرقص

 

وعلى هذا، فإن "المواطنة" موجودة فى المساحات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والمدنية وغيرها، حسب تعريفات العلوم السياسية والاجتماعية.

وتتشكل "المواطنة" بشقيها المعنوى والمادى، فالأول هو ما يمكن أن نطلق عليه لفظى "الولاء والانتماء"، أما الثانى فهو ما يكتسبه المواطن من حقوق داخل وطنه، مثل الحقوق الاقتصادية كأن يضمن قانون العمل مثلا العدالة بين العامل وصاحب العمل.

لماذا يستخدم البعض فى مصر كلمة "المواطنة" باعتبارها مجرد التعايش بين المختلفين دينيا؟

بالفعل الكثيرون يعتقدون أن "المواطنة" فى مصر هى مجرد التعايش بين المسلمين والمسيحيين، لكن هذا غير صحيح، فهذا الأمر بند من بين بنود كثيرة تتحقق فى فكرة التعايش بين المختلفين "الأضداد"، لهذا رصدت فى فترة أنواع الاختلاف الموجودة فى المجتمع المصرى وهى تقريبا 10 اختلافات، هناك مثلا الاختلاف الاقتصادى بين الغنى والفقير، والاختلاف وفقا للجنس بين الرجل والمرأة، وكذلك المكانة، وأيضا فى الأجيال والأديان والمذاهب واللون والعرق والجهة.

المواطنة لا تعنى التعايش بين المسلم والمسيحى فقط .. ربما مصادفة أن الكتابات المبكرة ولدت فى هذا الإطار

المسألة ليست فقط علاقة المسلم بالمسيحى، الأمر أنه تصادف أن الكتابات المبكرة الخاصة بـ"المواطنة" ولدت فى هذا الإطار، لا سيما فى السبعينيات والثمانينيات عندما كان هناك توتر دينى فى مصر، وأخص هنا تحديدا أستاذين: أولهما وليم سليمان قلاده، رحمه الله، وكيل مجلس الدولة الأسبق، وكتابه "الحوار بين الأديان" الذى صدر عام 1979، والذى تحدث فيه عن "المواطنة"، وثانيهما المستشار طارق البشرى، نائب رئيس مجلس الدولة الأسبق، وله كتاب مرجع بعنوان "الأقباط والمسلمون فى إطار الجماعة الوطنية" الذى صدر سنة 1980، لا مفر لأى باحث عن "المواطنة" إلا للرجوع إليه.

أزعم أننى نقلت تعريف "المواطنة" من رؤية علاقة المسلم بالمسيحى فى مصر، إلى مفهوم أوسع، خصوصا فى كتاباتى المبكرة عن هذا المفهوم فى باب "نحو المواطنة" بمجلة اليسار التى توقفت تقريبا عن الصدور فى العام 2000.

المفكر سمير مرقص فى حواره لمبتدا

 

خلال فترة التسعينيات، اطلعت على أدبيات "المواطنة" العالمية، والتى بدأت بعد الحرب العالمية بكتابات مارشال الذى يُعتبر "أبو المواطنة" فى العالم، وله كتاب اسمه "المواطنة والتغيير والطبقة" والصادر سنة 1950، وله يعود الفضل فى إعطائى فكرة اتساع مبدأ "المواطنة" وعدم حصرها فى اختلاف بين دينين فقط.

متى تتحقق "المواطنة" تحديدا؟

من يقرأ فى الكتابات السابقة عن "المواطنة"، أو بالنظر لتجارب البلاد التى سبقتنا فى "المواطنة" لاشك سيعرف أنها تكتسب عبر نضالات الناس للوصول إلى الحقوق، فـ"المواطنة" تُكتسب ولا تُمنح، والدليل أنه من الوارد أن يكون هناك بند دستورى ينص عليها، لكنه غير مفعّل على أرض الواقع.

دولة محمد على نقلت مصر إلى "الحداثة" عبر تمليك الأراضى للمصريين وبناء جيش وطنى ومؤسسات حديثة

"المواطنة" من وجهة نظرى هى حركة الناس على أرض الواقع من أجل اكتساب العدالة والمساواة ومنظومة الحقوق على قاعدة اقتصاد إنتاجى، لأن "المواطنة" الحقيقية لا تتحقق إلا فى إطار اقتصاد إنتاجى، وليس ريعى قائم على الثروات الطبيعية، فإذا كانت بنية المجتمع قائمة على أعراف وتقاليد ما قبل الدولة الحديثة، فيستحيل معها تحقيق مبدأ "المواطنة"، إذا فالدولة الحديثة ووجود اقتصاد إنتاجى يعبر عن حداثة الدولة شرط أساسى لتحقيق "المواطنة".

المفكر سمير مرقص

 

"المواطنة" فى أوروبا كانت قائمة على اكتساب خطى، فبدأ النضال مثلا لاكتساب حرية التعبير أولا، فتحققت لهم "المواطنة المدنية"، ثم ناضلوا من أجل تمثيل دافعى الضرائب سياسيا، فتحققت "المواطنة السياسية"، ثم تحققت "المواطنة الاجتماعية"، وهكذا.

وماذا عن تاريخ "المواطنة" فى مصر؟

فى مصر، أعتقد أن دولة محمد على نقلت مصر من دولة ما قبل الحداثة، إلى الحداثة، متمثلة فى عناصر أساسية، أولها أنه لأول مرة فى التاريخ يتملك المصريون الأراضى، وهذا لم يكن موجودا قبل محمد على، وثانيا ولأول مرة أيضا صار هناك جيش وطنى مكوناته مصرية، بمعنى تجاور الغنى والفقير، والمسلم والمسيحى.

المفكر سمير مرقص

 

محمد على كان يفهم قيمة مصر وموقعها وثرواتها، ولهذا أراد استقلاليتها، وإبعادها عن الباب العالى. وأقول أن من منحهم محمد على فرصة تملك الأراضى، صاروا نواة مجلس شورى النواب فى 1866، والذين مارسوا العملية الديمقراطية أيام الخديو إسماعيل، حيث صاروا مشاركين ومشاورين له فى صناعة القرار الوطنى، وعندما تعرض الخديو إلى الحصار البريطانى، كانوا لسان الشعب، ووقفوا إلى جوار حاكمهم بدافع النخوة الوطنية، رغم ملاحظاتهم على أدائه.

العنصر الأساسى الأخير الذى صنعته دولة محمد على فى الانتقال إلى دولة جديدة، هو نشأة مؤسسات الحداثة، مثل الجهاز الإدارى للدولة، ومدرسة الألسن، ومؤسسات التعليم وغيرها.

بسبب هذه العناصر بدأت "المواطنة" فى مصر تتبلور من هذا التاريخ.

 

ثم ماذا حدث بعد ذلك؟

حدثت هزة كبيرة فى عصر الخديو توفيق، وتحديدا بسبب الاستعمار البريطانى، فجاءت ثورة 1919، حيث بحث المصريون قبلها عن الاستقلال الوطنى والنضال من أجل حياة أفضل، فكانت الثورة، حيث بلورت مصر خلال هذه الثورة مفهوم "المواطنة" فى بعديها المدنى والسياسى، ولذلك دستور 23 مميز فى زمنه.

المفكر سمير مرقص

 

أما بعد ذلك، هناك لقطة شديدة الذكاء التقطها الكاتب الكبير الراحل صلاح عيسى فى كتابه "البرجوازية المصرية تلعب خارج الحلبة"، حيث طرح فكرة كيف كان حزب "الوفد" ثورى ويعبر عن المصلحة الوطنية ولكن لفترة زمنية بعينها، إذ أنه فى مطلع الأربعينيات تحول إلى حزب كبار ملاك الأرض، وبدأ يعبر عن تلك الطبقة فقط، فكان لابد من قيام ثورة 1952.

عبدالناصر أهمل المستويات المدنية والسياسية .. وأنجز فى منظومة "المواطنة" الاجتماعية والاقتصادية

ثورة يوليو لم تستطع الحفاظ على إنجازات مصر من ناحية "المواطنة" المدنية والسياسية بسبب عوامل كثيرة منها الاستعمار والمؤامرات وغيرها، وبالمناسبة أنا من مدرسة عدم إحالة الظواهر إلى عامل واحد، فهذا أمر غير علمى بالمرة، فالظواهر لا بد أن تحال إلى عوامل كثيرة. ولكن ما فعلته ثورة يوليو هو أنها أنجزت فى مجال "المواطنة" فى بعديها الاقتصادى والاجتماعى.

المفكر سمير مرقص

 

ولأن عبدالناصر ومجموعة الضباط الأحرار أبناء الطبقة الوسطى الصغيرة، فكان يعلم جيدا ضرورة مراعاة وتلبية احتياجات تلك الطبقة. صحيح أنه لم يهتم بالجانب المدنى والسياسى، ربما لظروف المرحلة، ولكنه أنجز فى الشق الاجتماعى والاقتصادى، كما قلت.

فى فترة السبعينيات، أرى أنه فقدنا "المواطنة" بكل أبعادها، حيث تراجعنا عن كل منجزات ثورتى 1919، و1952.

وماذا عن "المواطنة" فى الفترة الحالية؟

فى اللحظة التاريخية الحالية، أصبح من الواضح أن الدولة بدأت ترعى أبعاد "المواطنة" كاملة بدرجة أو بأخرى. أظن أننا فى مرحلة تحول بعد "حراك" 25 يناير، و"تمرد" 30 يونيو، لأنهما يعبرا عن ضرورة فكرة التكامل لاحقا.

"حراك" 25 يناير كان خروجا على الاستبداد السياسى .. و"تمرد" 30 يونيو ثورة على الاستبداد الثقافى

 

فى 25 يناير كان خروجا على الاستبداد السياسى فى مستوى من المستويات، أما فى 30 يونيو فكان خروجا على الاستبداد الثقافى فى مستوى من المستويات، وأعتقد أن الاهتمام السياسى بالبعد الاجتماعى للفقراء فى مصر، وإيجاد سند لهم من خلال البرامج المتعددة التى تقوم به الدولة، هو عملية من عمليات "المواطنة".

الفقراء فى مصر هم فى الأساس الطبقة الوسطى التى قضت عليها سياسات الانفتاح فى السبعينيات، بعد أن كانوا عمودا فقريا للدولة الحديثة منذ عهد محمد على.

تابعوا مبتدا على جوجل نيوز