البث المباشر الراديو 9090
الدكتور يوسف عامر
الحضارة هي التقدم والرقي في شتى مجالات الحياة، ونستطيع أن نقول: إنها بهذا المعنى تُعدُّ مرادفةً لمفهوم «عمارة الأرض» الذي جاء في كتاب الله تعالى على لسان بعض رُسله الكرام عليهم السلام، قال تعالى: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود: 61]؛ أي: أراد منكم عمارتها.

وعمارة الأرض مفهوم واسع لا يتوقف عند مجردِ العناية ببقاعِها ودُروبِها، إن مفهومَ عمارة الأرض يبدأ من الدين، حيث يقوم علماء الدين ببيان أحكام الدين للقضايا المختلفة المستجدَّة، وتقديم الفتاوى التي تتناسب مع الواقع الجديد، وبيان ما يتضمنه وحي الله تعالى من عقيدة وأحكام وتزكية بلغة يفهمُها المعاصرون، فيسيرون وفقَ مراد الله تعالى من خلقه، {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].

وهذا هو «تجديد الخطاب الديني».. نعم إنه فهْمُ حقيقةِ الشرع الشريف، ثم تفهيمُها للناس بلغةٍ تناسبُهم، وهذا مما جاءتْ به ثورة 30 يونيو، إنها جاءت منادية بـ«تجديد الخطاب الديني» لمواجهةِ الفكر المتطرف.

ويمتد مفهوم عمارة الأرض فيشمل بناء الأوطان القوية؛ تحقيقًا لمفهوم «القوة» في قوله سبحانه وتعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60]، وهي تشمل قوةَ كِيانِ الدولة، وقوةَ جيشِها، وقوةَ أبنائِها في دينِهم وعقيدتِهم وعقولِهم وأجسادِهم ونفوسِهم وعلومِهم وثقافتِهم، وهذا تنشأ عنه مؤسساتٌ قوية تخطو كلَّ يوم خُطوةً في سبيل التقدم وصناعة الحضارة، فتعتني بالأرض زراعةً واستصلاحًا وتعميرًا وبناءً، وتعتني بالإنسان بدنيَّا ونفسيًّا وعقليًّا، وهذا أيضًا مما نهضت به الدولة بعد ثورة 30 يونيو من خلال مبادراتها المختلفة التي اهتمت بالإنسان وكرامته، حتى يعيش «حياة كريمة» تناسب إنسانيته التي كرَّمها الله تعالى، وأخبر عن هذا التكريم في كتابه الخالد الذي لا يأتيه الباطل من يديه ولا من خَلفه فقال سبحانه: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء: 70].

وقد أولتْ ثورة 30 يونيو عنايةً كبيرةً بشأن المرأة فهي التي تُؤازرُ الرجلَ القيامَ بمهمةِ الخلافةِ في الأرض، وتُشاركُه القيامَ بأعباءِ المسئوليةِ الإنسانيةِ أُمًّا وزوجةً وأُختًا وبنتًا، فدَورُها في الحياة يكمل دور الرجل، ولا يُستغنى بأحدِهما عن الآخر، وقد جاءتْ عنايةُ الدولة بعد ثورة 30 يونيو بها متوافقةً معَ وصيةِ سيدِنا رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «استوصُوا بالنساءِ خيرًا»، وكلمة (خيرًا) تتسعُ لِتشملَ كلَّ الصور الراقية من الرعاية والعناية والتربية والتنشئة والتعليم والتثقيف...

ومجيء ثورة 30 يونيو بهذه المعاني التي في مجموعها تشكل الحضارة يجعلنا نقول: إن ثورة 30 يونيو ثورة حضارية باعتبار ما نادت به وسعت في تحقيقه ولا تزال من هذه الأساسيات الحضارية.

إنها معانٍ طيبة تحتاج مِن كلٍّ منَّا إلى وعي بها، وسعي صادق للمعاونة فيها بقدر المستطاع.

د. يوسف عامر ـ رئيس لجنة الشئون الدينية والأوقاف بمجلس الشيوخ

تابعوا مبتدا على جوجل نيوز