البث المباشر الراديو 9090
إسحق حنا
فرج فودة، كاتب ومفكر من طراز استثنائى متميز يؤمن إيمانا قويا واعيا بمبادئ وقيم تنتصر للإنسانية وللعقل وللإبداع، تنتصر للتحضر والرقى، تنتصر للعدالة والحرية، تنتصر فى مجملها لأسلوب الدولة المدنية.

 

منذ أكثر من ربع قرن أدرك فرج فودة، حجم الخطر الذى يتربص بالدولة المدنية فى مصر، صعودًا واضحًا لكل ذى عينين لنشاط جماعات العنف المسلح "الجماعة الإسلامية"، ونشاط أوضح للجماعات السلفية بتعدداتها الفكرية وتخصصاتها الوظيفية المختلفة ظاهريا والمتفقة والمتكاملة باطنيا فى هدف واحد هو ابتلاء الوطن بأحداث طائفية متكررة، واتساع وتيرة اللغة الدينية فى الإعلام والتعليم، يقابله تدنى ملحوظ لسيطرة وسيادة القانون، بل ربما غيابه كليًا فى معالجات عديدة لأحداث عديدة، ظهور ما يسمى بالاقتصاد الإسلامى وما اتبعه من وصف أنشطة الحياة بلفظ دينى طائفى هو "الإسلامية"، فصار هناك الطب الإسلامى والهندسة الإسلامية، والأزياء الإسلامية، والاحتفال الإسلامى، والتحية الإسلامية، إلى آخر قائمة طويلة وتطول كل يوم، وما تخسره الدولة المدنية كل يوم جراء تلك الممارسات.

ناهيك عن أوسع العوامل خطرًا على الدولة المدنية وهو تبنى القيادة السياسية المصرية متمثلة فى الرئيس السادات لهذا الفكر المتطرف أو هذا الفكر الاقصائى أو التمييزى الهادم لمبادئ المواطنة وسيادة القانون لحساب الطائفية وتديين الحياة العامة بصبغة إسلامية متطرفة، مما شجع تلك التيارات لتبنى أسلوب الإرهاب والتصفيات الجسدية.

لاحظ فودة، ذلك وسجل تفاصيله وحلل ما وراءه من فكر ومن سياسة وكتب كتابه "قبل السقوط" صوتًا نذيرًا قبل فوات الآوان لكن الدولة لم تهتم، وبرغم اغتيال السادات بيد هذه الجماعات إلا أن مبارك لم يتخذ الإجراء الناجز لحماية الدولة المدنية من هذه التيارات الدينية التى كشفت عن هدفها الأول وهو استعادة الخلافة الإسلامية من جديد، حيث لا وطن سوى الإسلام ولا عقيدة سوى الإسلام ولا قانون سوى الشريعة الإسلامية، ولا مواطنين بل رعايا وذميين ولا حريات سوى ما يسمح به الخليفة ولا علوم سوى علوم الدين.     

وتتكرر حوادث القتل والإرهاب والعنف والترويع من هذه الجماعات الإرهابية ضد فصائل الشعب المصرى، الشرطة والمسيحيين والمفكرين والساسة ويستشعر الجميع الخطر، لكن فودة، ينبرى ليسطر كتابه "الإرهاب" يحذر ويشرح أسباب الإرهاب ودوافعه وكيف نواجهه وسبل الحل، وكان كعادته محللاً دقيقًا صائبًا ومدافعًا عن الدين ضد من أرادوا استخدامه مطية لأغراضهم الجهنمية كما وصفها، ومدافعًا أيضًا عن الوطن.

اقرأ معنى كلماته هذه المعبرة فى هذا المعنى "الله قد ترك شؤون السياسة والحكم لاجتهاد المسلمين، لعلمه وهو العليم أن العصور تتغير وأن الأزمنة تتوالى وأن أنظمة الحكم تتغير مع هذا كله، وأن الإسلام لو اشتمل على ذلك نصًا وتحديدًا لفرض الثبات على مالا ثبات فيه، الضيق على ما هو محل للسعة، والحسم على ماهو مجال للاجتهاد"، (من كتاب الارهاب ص54).

فرج فودة، عايشته ما يقرب من ست سنوات وحتى يوم الاستشهاد، رجل متميز بكل ما تحمل الكلمة من معان، يملك قدرًا هائلاً من الشجاعة، شجاعة المواجهة، يملك قدرًا هائلاً من المنطق ومن إعمال العقل، يملك قدرًا أكبر من حب الوطن ومن حب الحياة، ينحاز دائمًا للحقيقة لا يضيف إليها ولا ينقص منها هكذا نعرف عنه، وهكذا قال فى مقدمة كتابه "الحقيقة الغائبة"، هذا حديث سوف ينكره الكثيرون، لأنهم يودون أن يسمعوا ما يحبون فالنفس تأنس بما تهواه، وتتعشق ما استقرت عليه ويصعب عليها أن تستوعب غيره، حتى لو تبينت أنه الحق، أو توسمت أنه الحقيقة، هذا حديث قصدت به أن أكون واضحا كل الوضوح، صريحا كل الصراحة.

فرج فودة، الذى استشهد دفاعًا عن الدولة المدنية أى دفع حياته من أجل أن ينتصر للدولة المدنية بكل مكوناتها بكل مؤسساتها بكل مكاسب الوطن فيها، دفع حياته من أجل أن حرية الفكر والرأى والتعبير وحرية الإبداع وحرية الاعتقاد، ولم يكن هذا بالأمر الهين بلا شك فقد واجه فودة فى ذلك أعتى الجماعات والمؤسسات المناهضة للوطن المتسربلة بالدين، واجههم بشجاعة وأخلاق وقوة، كانت أدواته المنطق والعقل والحجة، ففى دفاعه عن حرية الفكر ضد ممارسات الأزهر فى تكفير المفكرين وملاحقتهم قال "ما شأن الأزهر بما يكتبه المفكرون وغيرهم.. أقصى ما يفعله الأزهر فى تقديرى هو أن يرد ويوضح وليس له ولن يكون أن يمنع أو يقمع أو يحاكم أو يدعو للعقاب".

 لم يتعلم مبارك من درس السادات، ورأينا ورأى فوده تناميًا أكثر لهذه التيارات فى مجالات عدة، مما دعى فودة إلى كتابة كتابه الثامن بعنوان "النذير" يدلل فيه أن جماعات التطرف الإسلامى باتت تمتلك مقومات الدولة وهى الاقتصاد والإعلام والقوة، وهددت شركات توظيف الأموال الإسلامية البنوك الوطنية وغـزا إعلام التطرف الإعلام الرسمى وظهرت قنوات إعلامية متطرفة عديدة وصحف ومجلات بكاملها وأخرى جزئيا، إضافة إلى اختراق الإعلام الرسمى.

وتمثل امتلاك القوة وهى الملمح الثالث لشكل الدولة فى الأجنحة العسكرية الجهادية المدربة والقادرة على إحداث الفوضى من أجل السيطرة، وكتب فودة هذا معبرًا من جديد عن قلقه على مدنية الدولة، ظل يصرخ عبر مقالاته فى الصحف والمجلات مواجهًا بشجاعة منقطعة النظير ومفندًا ومحللاً لمراوغات الإرهاب ومدافعا عن الوطن وعن الدولة وعن البشر وعن القيم وعن الإسلام الدين، دافع عن الإسلام الدين ضد المتاجرين به الداعين لإسلام الدولة، بح صوته بأن الإسلام الدين فى أعلى عليين أما الإسلام الدولة فهو منتج بشرى يخطئ ويصيب ولنا أن نختلف حوله كأى منتج بشرى.

واستمر فى رصد ظواهر التطرف وما وراء فعل التطرف من أفكار متطرفة وما وراء الأفكار المتطرفة من رجال دين ومؤسسات دينية وسياسية وما وراء ذلك كله من تنظيمات عالمية ممولة ومخططة.

وكشف فودة خباياهم المستورة وقبحهم الحقيقى وعدائهم للوطن وللدين، ووقف فودة محاربا بقلمه وكلمته دون ظهير يحميه وتربص به الإرهابيون وأطلقوا عليه رصاصات غدرهم وجهلهم، بعدما أفتى لهم شيوخهم بذلك.

مؤامرة اشترك فيها الشيوخ والجهلة وضعف الدولة وجهل المسؤولين وكانت الخسارة فادحة ويجب ألا تتكرر، واليوم وقد مضى تسع وعشرين عامًا على استشهاد فرج فودة لم يزل حاضرًا بعرض المشهد، أثمرت كتاباته فصارت قبس من نور تضئ الطريق لعقول كثيرة من كل الأعمار حتى الشباب الذى ولد حديثًا، صار متيما بفكر فودة وشجاعته ووطنيته، وسيظل حاضرًا بفكره المستنير وكتاباته الملهمة ما بقى الإنسان منشدًا للحق والعدل والعقل والإنسانية والحرية.

تابعوا مبتدا على جوجل نيوز